فصل: قال أبو السعود:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



إذ هبت الريح فذرت أوراق اليابسات السود على الخضر المثمرات فاشتعلت فيهن النار فأحرقتهن فصرن سودًا فهذا ما رأيت أيها الملك ثم انتبهت مذعورًا فقال الملك والله ما أخطأت منها شيئًا فما شأن هذه الرؤيا وإن كان عجبًا فما هو بأعجب مما سمعت منك وما ترى في تأويل رؤياي أيها الصديق؟ قال يوسف: أرى أن تجمع الطعام وتزرع زرعًا كثيرًا في هذه السنين المخصبة وتجعل ما يتحصل من ذلك الطعام في الخزائن بقصبه وسنبله فإنه أبقى له فيكون ذلك القصب والسنبل علفًا للدواب وتأمر الناس فليرفعوا الخمس من زروعهم أيضًا فيكفيك ذلك الطعام الذي جمعته لأهل مصر ومن حولها وتأتيك الخلق من سائر النواحي للميرة ويجتمع عندك من الكنز والأموال ما لا يجتمع لأحد قبلك فقال الملك: ومن لي بهذا ومن يجمعه ويبيعه لي ويكفيني العميل فيه فعند ذلك.
{قال} يعني يوسف: {اجعلني على خزائن الأرض} يعني على خزائن الطعام والأموال، وأراد بالأرض أرض مصر أي اجعلني على خزائن أرضك التي تحت يدك، وقال الربيع بن أنس اجعلني على خزائن خراج مصر ودخلها: {إني حفيظ عليم} أي حفيظ الخزائن عليم بوجوه مصالحها وقيل معناه إني حاسب كاتب وقيل حفيظ لما استودعتني عليم بما وليتني وقيل حفيظ للحساب عليم أعلم لغة من يأتيني، وقال الكلبي: حفيظ بتقديره في السنين المخصبة للسنين المجدبة عليم بوقت الجوع حين يقع فقال الملك عند ذلك ومن أحق بذلك منك وولاَّه ذلك، وروى البغوي بإسناد الثعلبي عن ابن عباس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يرحم الله أخي يوسف لو لم يقل اجعلني على خزائن الأرض لاستعمله من ساعته ولكنه أخر ذلك سنة».
فإن قلت كيف طلب يوسف علي الصلاة والسلام الإمارة والولاية مع ما ورد من النهي عنها مع كراهية طلبها لما صح من حديث عبد الرحمن بن سمرة قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا عبد الرحمن لا تسأل الإمارة فإنك إن أوتيتها عن مسألة وكلت إليها وإن أتيتها من غير مسألة أعنت عليها» أخرجاه في الصحيحين.
قلت إنما يكره طلب الإمارة إذا لم يتعين عليه طلبها فإذا تعين عليها طلبها وجب ذلك عليه ولا كراهية فيه فأما يوسف فكان عليه طلب الإمارة لأنه مرسل من الله تعالى والرسول أعلم بمصالح الأمة من غيره وإذا كان مكلفًا برعاية المصالح ولا يمكنه ذلك إلا بطلب الإمارة وجب عليه طلبها، وقيل إنه علم انه سيحصل قحط وشدة إما بطريق الوحي من الله أو بغيره وربما أفضى ذلك إلى هلاك معظم الخلق، وكان في طلب الإمارة إيصال الخير والراحة إلى المستحقين وجب عليه طلب الأمارة لهذا السبب.
فإن قلت كيف مدح يوسف نفسه بقوله إني حفيظ عليم والله تعالى يقول فلا تزكوا أنفسكم.
قلت إنما يكره تزكية النفس إذا قصد به الرجل التطاول والتفاخر والتوسل به إلى غير ما يحل فهذا القدر المذموم في تزكية النفس.
أما إذا قصد بتزكية النفس ومدحها إيصال الخير والنفع إلى الغير فلا يكره ذلك ولا يحرم بل يجب عليه ذلك مثاله أن يكون بعض الناس عنده علم نافع ولا يعرف به فإنه يجب عليه أن يقول أنا عالم، ولما كان المالك قد علم من يوسف أنه عالم بمصالح الدين ولم يعلم أنه عالم بمصالح الدنيا نبهه يوسف بقوله إني حفيظ عليم على أنه عالم بما يحتاج إليه في مصالح الدنيا أيضًا مع كمال علمه بمصالح الدين.
قوله: {وكذلك مكنا ليوسف في الأرض}
وكذلك إشارة إلى ما تقدم، يعني وكما أنعمنا على يوسف بأن أنجيناه من الجب وخلصناه من السجن وزيناه في عين الملك حتى قربه وأدنى منزلته كذلك مكنا له في الأرض يعني أرض مصر؛ ومعنى التمكين هو أن لا ينازعه منازع فيما يراه ويختاره وإليه الإشارة بقوله: {يتبوأ منها حيث يشاء} لأنه تفسير للتمكين.
قال ابن عباس وغيره لما انقضت السنة من يوم سأل يوسف الإمارة دعاه الملك فتوجه وقلده بسيفه وحلاه بخاتمه ووضع له سريرًا من ذهب مكللًا بالدر والياقوت طوله ثلاثون ذراعًا وعرضه عشرة أذرع ووضع له عليه ثلاثون فراشًا وستون ماريًا وضرب له عليه كلة من إستبرق وأمره أن يخرج فخرج متوجًا لونه كالثلج ووجه كالقمر يرى الناظر وجهه فيه من صفاء لونه فانطلق حتى جلس على ذلك السرير ودانت ليوسف الملوك وفوض الملك الأكبر إليه ملكه وعزل قطفير عما كان عليه وجعل يوسف مكانه.
قال ابن إسحاق قال ابن زيد وكان لملك مصر خزائن كثيرة فسلمها إلى يوسف وسلم له سلطانه كله وجعل أمره وقضاءه نافذًا في مملكته قالوا ثم هلك قطفير عزيز مصر في تلك الليالي فزوج الملك يوسف امرأة العزيز بعد هلاكه فلما دخل يوسف عليها قال لها أليس هذا خيرًا مما كنت تريدين قال له أيها الصديق لا تلمني فإني كنت امرأة حسناء ناعمة كما ترى في ملك ودنيا وكان صاحبي لا يأتي النساء وكنت كما جعلك الله في حسنك وهيئتك فغلبتني نفسي وعصمك الله قالوا فوجدها يوسف عذراء فأصابها فولدت له ولدين ذكرين إفراثيم وميشا وهما ابنا يوسف منها واستوثق ليوسف ملك مصر وأقام فيه العدل وأحبه الرجال والنساء فلما اطمأن يوسف في ملكه دبر في جمع الطعام أحسن التدبير وأقام فيه العدل وأحبه الرجال والنساء اطمأن يوسف في ملكه دبر في جمع الطعام أحسن التدبير فبنى الحصون والبيوت الكثيرة وجمع فيها الطعام للسنين المجدبة وأنفق المال بالمعروف حتى خلت السنين المخصبة ودخلت السنين المجدبة بهول وشدة لم ير الناس مثله، وقيل: إنه دبر في طعام الملك وحاشيته كل يوم مرة واحدة نصف النهار فلما دخلت سنين القحط كان أول من أصابه الجوع الملك فجاع نصف النهار فنادى يا يوسف الجوع الجوع فقال يوسف هذا أول أوان القحط فهلك في السنة الأولى من أول سنين القحط كل ما أعدوه في السنين المخصبة فجعل أهل مصر يبتاعون الطعام من يوسف فباعهم في السنة الأولى بالنقود حتى لم يبق بمصر درهم ولا دينار إلا أخذه منهم وباعهم في السنة الثانية بالحلي والجواهر حتى لم يبق بمصر في أيدي الناس منها شيء وباعهم في السنة الثالثة بالدواب والمواشي والأنعام حتى لم تبق دابة ولا ماشية إلا احتوى عليها كلها وباعهم في السنة الرابعة بالعبيد والجواري حتى لم يبق بأيدي الناس عبد ولا أمة وباعهم في السنة الخامسة بالضياع والعقار حتى أتى عليها كلها وباعهم في السنة السادسة بأولادهم، حتى استرقهم وباعهم في السنة السابعة برقابهم حتى لم يبق بمصر حر ولا حرة إلا ملكه فصاروا جميعهم عبيدًا ليوسف فقال أهل مصر ما رأينا كاليوم ملكًا أجمل ولا أعظم من يوسف فقال يوسف للملك كيف رأيت صنع الله بي فيما خولني فما ترى في هؤلاء قال الملك الرأي رأيك ونحن لك تبع قال فإني أشهد الله وأشهدك أني قد أعتقت أهل مصر عن آخرهم ورددت عليهم أملاكهم وقيل إن يوسف كان لا يشبع من الطعام في تلك الأيام فقيل له أتجوع وبيدك خزائن الأرض فقال أخاف إن شبعت أن أنسى الجائع وأمر يوسف طباخي الملك أن يجعلوا غداءه نصف النهار وأراد بذلك أن يذوق الملك طعم الجوع فلا ينسى الجائع فمن ثم جعل الملوك غداءهم نصف النهار.
قال مجاهد: ولم يزل يوسف يدعو الملك إلى الإسلام ويتلطف به حتى أسلم الملك وكثير من الناس فذلك قوله سبحانه وتعالى: {وكذلك مكَّنَّا ليوسف في الأرض يتبوأ منها حيث يشاء}، {نصيب برحمتنا من نشاء} يعني نختص بنعمتنا وهي النبوة من نشاء يعني من عبادنا: {ولا نضيع أجر المحسنين} قال ابن عباس يعني الصابرين: {ولأجر الآخرة} يعني ولثواب الآخرة: {خير} يعني أفضل من أجر الدنيا: {للذين آمنوا وكانوا يتقون} يعني يتقون ما نهى الله عنه وفيه دليل على أن الذي أعد الله ليوسف في الآخرة من الأجر والثواب الجزيل أفضل مما أعطاه الله في الدنيا من الملك. اهـ.

.قال أبو حيان:

{وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي}
روي أن الرسول جاءه فقال: أجب الملك، فخرج من السجن ودعا لأهله اللهم عطف عليهم قلوب الأخيار، ولا تعم عليهم الأخبار، فهم أعلم الناس بالأخبار في الواقعات.
وكتب على باب السجن: هذه منازل البلوى، وقبور الأحياء، وشماتة الأعداء، وتجربة الأصدقاء، ثم اغتسل وتنظف من درن السجن، ولبس ثيابًا جددًا، فلما دخل على الملك قال: اللهم إني أسألك بخيرك من خيره، وأعوذ بعزتك وقدرتك من شره، ثم سلم عليه ودعا له بالعبرانية فقال: ما هذا اللسان؟ فقال: لسان آبائي، وكان الملك يتكلم بسبعين لسانًا فكلمه بها، فأجابه بجميعها، فتعجب منه وقال: أيها الصديق إني أحب أن أسمع رؤياي منك قال: رأيت بقرات سمان فوصف لونهن وأحوالهن، وما كان خروجهن، ووصف السنابل وما كان منها على الهيئة التي رآها الملك لا يخرم منها حرفًا، وقال له: من حفظك أن تجعل الطعام في الاهراء فيأتيك الخلق من النواحي يمتارون منك، ويجتمع لك من المكنون ما لم يجتمع لأحد قبلك.
وكان يوسف قصد أولًا بتثبته في السجن أن يرتقي إلى أعلى المنازل، فكان استدعاء الملك إياه أولًا بسبب علم الرؤيا، فلذلك قال: ائتوني به فقط، فلما فعل يوسف ما فعل فظهرت أمانته وصبره وهمته وجودة نظره وتأنيه في عدم التسرع إليه بأول طلب عظمت منزلته عنده، فطلبه ثانيًا ومقصوده: استخلاصه لنفسه.
ومعنى أستخلصه: أجعله خالصًا لنفسي وخاصًا بي، وسمى الله فرعون مصر ملكًا إذ هي حكاية اسم مضى حكمه وتصرم زمنه، فلو كان حيًا لكان حكمًا له إذا قيل لكافر ملك أو أمير، ولهذا كتب النبي صلى الله عليه وسلم إلى هرقل عظيم الروم ولم يقل ملكًا ولا أميرًا، لأن ذلك حكم.
والجواب مسلم وتسلموا.
وأما كونه عظيمهم فتلك صفة لا تفارقه كيف ما تقلب.
وفي الكلام حذف التقدير: فسمع الملك كلام النسوة وبراءة يوسف مما رمى به، فأراد رؤيته وقال: ائتوني به فأتاه، فلما كلمه.
والظاهر أن الفاعل بكلمه هو ضمير الملك أي: فلما كلمه الملك ورأى حسن جوابه ومحاورته.
ويحتمل أن يكون الفاعل ضمير يوسف أي: فلما كلم يوسف الملك، ورأى الملك حسن منطقه بما صدق به الخبر، والمرء مخبوء تحت لسانه، قال: إنك اليوم لدينا مكين أي: ذو مكانة ومنزلة، أمين مؤتمن على كل شيء.
وقيل: أمين آمين، والوصف بالأمانة هو الأبلغ في الإكرام، وبالأمن يحط من إكرام يوسف.
ولما وصفه الملك بالتمكن عنده، والأمانة، طلب من الأعمال ما يناسب هذين الوصفين فقال: اجعلني على خزائن الأرض أي: ولني خزائن أرضك إني حفيظ أحفظ ما تستحفظه، عليم بوجوه التصرف.
وصف نفسه بالأمانة والكفاءة وهما مقصود الملوك ممن يولونه، إذ هما يعمان وجوه التثقيف والحياطة، ولا خلل معهما لقائل.
وقيل: حفيظ للحساب، عليم بالألسن.
وقيل: حفيظ لما استودعتني، عليم بسني الجوع.
وهذا التخصيص لا وجه له، ودلّ إثناء يوسف على نفسه أنه يجوز للإنسان أن يثني على نفسه بالحق إذا جهل أمره، ولا يكون ذلك التزكية المنهي عنها.
وعلى جواز عمل الرجل الصالح للرجل التاجر بما يقتضيه الشرع والعدل، لا بما يختاره ويشتهيه مما لا يسيغه الشرع، وإنما طلب يوسف هذه الولاية ليتوصل إلى إمضاء حكم الله، وإقامة الحق، وبسط العدل، والتمكن مما لأجله تبعث الأنبياء إلى العباد، ولعلمه أن غيره لا يقوم مقامه في ذلك.
فإنْ كان الملك قد أسلم كما روى مجاهد فلا كلام، وإن كان كافرًا ولا سبيل إلى الحكم بأمر الله ودفع الظلم إلا بتمكينه، فللمتولي أن يستظهر به.
وقيل: كان الملك يصدر عن رأي يوسف ولا يعترض عليه في كل ما رأى، فكان في حكم التابع.
وما زال قضاة الإسلام يتولون القضاء من جهة من ليس بصالح، ولولا ذلك لبطلت أحكام الشرع، فهم مثابون على ذلك إذا عدلوا.
وكذلك أي: مثل ذلك التمكين في نفس الملك مكنًا ليوسف في أرض مصر، يتبوأ منها حيث يشاء أي: يتخذ منها مباءة ومنزلًا كل مكان أراد، فاستولى على جميعها، ودخلت تحت سلطانه.
روي أن الملك توجه بتاجه، وختمه بخاتمه، ورداه بسيفه، ووضع له سريرًا من ذهب مكللًا بالدر والياقوت، فجلس على السرير، ودانت له الملوك، وفوض الملك إليه أمره وعزل قطفير، ثم مات بعد، فزوجه الملك امرأته، فلما دخل عليها قال: أليس هذا خيرًا مما طلبت؟ فوجدها عذراء، لأنّ العزيز كان لا يطأ، فولدت له ولدين: افراثيم، ومنشا.
وأقام العدل بمصر، وأحبه الرجال والنساء، وأسلم على يده الملك وكثير من الناس، وباع من أهل مصر في سني القحط الطعام بالدنانير والدراهم في السنة الأولى حتى لم يبق معهم شيء منها، ثم بالحلي والجواهر، ثم بالدواب، ثم بالضياع والعقار، ثم برقابهم، ثم استرقهم جميعًا فقالوا: والله ما رأينا كاليوم ملكًا أجل ولا أعظم منه فقال للملك: كيف رأيت صنع الله بي فيما خولني، فما ترى؟ قال: الرأي رأيك قال: فإني أشهد الله وأشهدك أني أعتقت أهل مصر عن آخرهم، ورددت عليهم أملاكهم.
وكان لا يبيع من أحد من الممتارين أكثر من حمل بعير تقسيطًا بين الناس، وأصاب أرض كنعان وبلاد الشام نحو ما أصاب مصر، فأرسل يعقوب بنيه ليمتاروا، واحتبس بنيامين.
وقرأ الحسن وابن كثير: بخلاف عنهم أبو جعفر وشيبه ونافع: {حيث نشاء} بالنون، والجمهور بالياء.
والظاهر أنّ قراءة الياء يكون فاعل {نشاء} ضميرًا يعود على يوسف، ومشيئته معذوقة بمشيئة الله، إذ هو نبيه ورسوله.
وإما أن يكون الضمير عائدًا على الله أي: حيث يشاء الله، فيكون التفاتًا.
نصيب برحمتنا أي: بنعمتنا من الملك والغنى وغيرهما، ولا نضيع في الدنيا أجر من أحسن.
ثم ذكر أن أجر الآخرة خير، لأنه الدائم الذي لا يفنى.
وقال سفيان بن عيينة: المؤمن يثاب على حسناته في الدنيا والآخرة، والفاجر يعجل له الخير في الدنيا، وما له في الآخرة من خلاق، وتلا هذه الآية.
وفي الحديث ما يوافق ما قال سفيان، وفي الآية إشارة إلى أن حال يوسف في الآخرة خير من حالته العظيمة في الدنيا. اهـ.

.قال أبو السعود:

{وَقَالَ الملك ائتونى بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ}
أجعله خالصًا: {لِنَفْسِى} وخاصًا بي: {فَلَمَّا كَلَّمَهُ} أي فأتَوا به، فحُذف للإيذان بسرعة الإتيانِ به فكأنه لم يكن بين الأمرِ بإحضاره والخطابِ معه زمانٌ أصلًا، والضميرُ المستكنُّ في (كلّمه) ليوسف، والبارزُ للملك أي فلما كلّمه يوسفُ إثرَ ما أتاه فاستنطقه وشاهد منه ما شاهد: {قَالَ إِنَّكَ اليوم لَدَيْنَا مِكِينٌ} ذو مكانةٍ ومنزلةٍ رفيعة: {أَمِينٌ} مؤتمنٌ على كل شيء، (واليومَ) ليس بمعيار لمدة المكانةِ والأمانةِ بل هو آنُ التكلم والمرادُ تحديد مبدئهما احترازًا عن احتمال كونِهما بعد حين. روي أنه عليه السلام لما جاءه الرسولُ خرج من السجن ودعا لأهله واغتسل ولبِس ثيابًا جُدُدًا فلما دخل على الملك قال: «اللهم إني أسألك بخيرك من خيره، وأعوذ بعزتك وقدرتِك من شرّه وشرِّ غيره» ثم سلم عليه ودعا له بالعبرانية فقال: ما هذا اللسانُ؟ قال: لسانُ آبائي، وكان الملك يعرف سبعين لسانًا فكلّمه بها فأجابه بجميعها فتعجّب منه فقال: أحب أن أسمعَ منك رؤياي فحكاها ونعت له البقراتِ والسنابلَ وأماكنَها على ما رآها فأجلسه على السرير وفوّض إليه أمرَه، وقيل: توفي قطفيرُ في تلك الليالي فنصّبه منصِبه وزوجه راعيل فوجدها عذراءَ وولدت له إفراييم وميشا ولعل ذلك إنما كان بعد تعيينِه عليه السلام لِما عُيّن له من أمر الخزائنِ كما يعرب عنه قوله عز وجل: {قَالَ اجعلنى على خَزَائِنِ الأرض} أي أرض مصرَ أي ولِّني أمرَها من الإيراد والصرف: {إِنّى حَفِيظٌ} لها ممن لا يستحقها: {عَلِيمٌ} بوجوه التصرّفِ فيها، وفيه دليل على جواز طلبِ الولايةِ إذا كان الطالبُ ممن يقدر على إقامة العدلِ وإجراءِ أحكامِ الشريعة وإن كان من يد الجائرِ أو الكافر.